يكاد الظن يكون يقينا في كون معلومات كثير من المستثمرين في أسواق المال العربية عن البورصة مشوشة بل وبعيدة عن الواقع الحقيقي لهذا النشاط المهم، خصوصا أن تواتر الأحداث التاريخية التي ارتبطت بها عززت للأسف من تلك الآراء عند البعض. فالكثير يرى البورصة ناديا ضخما للمقامرة أو المضاربة "عالية المخاطرة" وأنها يمكن أن تجعل من يرتادها في سماء الغنى وقد تجعله في قاع الخسارة... "هوّ وحظه!".
من هنا قد يسعى البعض بعد ترقب ومتابعة وبعد اللجوء إلى أهل الجهل من متعاملين، إلى اتخاذ قرار الاستثمار في البورصة وعقيدته المغامرة غير المحسوبة، مقلدا غير مجتهد، آملا في أن ينال الحظ المنشود بتحقيق الربح غير العادي؛ فهو يندفع إلى هذا السلوك دون أن يدري عن السهم الذي قام بشرائه أي شيء بخلاف أنه يحمل اسم شركة، ودون أن يبذل المعاناة ليعرف فيم تعمل تلك الشركة أو يبحث عن وضعها أو خصائصها.
وعند جداله يتذرع بمبررات واهية من كون أغلب من يتعامل في البورصة ما هم إلا مغامرون أو أولئك الذين اطلعوا على الأسرار وبواطن الأمور ويعلمون ما يجعلهم قادرين على تحقيق الأرباح المتميزة مستغلين جهل باقي المتعاملين، وأنه على علاقة وصداقة بأحد هؤلاء، وأنه على يقين من أن متابعة قرارات هذا "المستثمر الواصل" ستجعله يحقق ما يصبو إليه من أرباح.
وعندما تحاول أن تحث هذا المستثمر على ضرورة أن يتسلح بالمعرفة والمعلومات وأن يفهم أصول عملية تقييم قرار الاستثمار في بورصة الأوراق المالية تجده يقنط ويستاء ويتجهم وجهه، واصفا ما تحثه على تعلمه بأنه "كلام كتب، وكلام نظري لا يسمن ولا يغني من جوع ولا يؤخذ به، وأنه يجب أن يسأل مجربا ولا يسأل طبيبا"، إلى آخر التعبيرات التي أصبحت شائعة في حياتنا.
إن دوافع البحث عن العائد دون بذل الجهد لا شك أمر لا يستقيم في البورصة لأنها في أصلها تجارة المعلومات والمعرفة ومن لم يتسلح بها فهو عاجلا أم آجلا حاصد الخسارة. ومن يسعى للاستثمار في البورصة يجب أن يقرأ ويتعلم ويفهم قبل أن يفكر في اتخاذ القرار؛ لأن الاستثمار في آليات السوق الحرة لا ينفصل عن ضرورات الثقافة العامة؛ فالمعرفة هي حاجز الأمان الذي يمنع من تعاظم المخاطر.
البورصة والمعرفة
"التنمية الاقتصادية هي حصاد التنمية المعرفية؛ فمن غير المعرفة يصبح كل ما لدى المجتمع من موارد هباء ضائعا أو عائدا مغتصبا من كيانات أخرى أعلى معرفة..."، هكذا عظم تقرير التنمية الإنسانية للدول العربية الصادر عن الأمم المتحدة من أهمية المعرفة لتحقيق التنمية الاقتصادية.
إن كل متخذ قرارا في التعامل مع الأوراق المالية يجب أن يعلم جيدا أن البورصة تحصد ما لدى المجتمع من مستويات معرفية وثقافية؛ فالمعرفة هي قوة اقتصادية وسياسية وتعد من الأصول عالية التقدير للمجتمع المتنامي معرفيا.
ولما كانت البورصة هي أداة قياس القيمة الاقتصادية لأصول المجتمع، فإن أي رقي في مستوى المعرفة التطبيقية للمجتمع سينعكس ولا شك في تعاظم الطلب في أصول المجتمع، ومن ثم نشاط وزيادة لبورصة الأوراق المالية.
من ناحية أخرى، فإن المعرفة التطبيقية تمثل للبورصة معنى آخر أكثر أهمية؛ فالبورصة هي أكثر البيئات الاقتصادية التي استفادت من ثورة الاتصالات وثورة المعلومات والنمو المطرد في تكنولوجيا الحواسب الآلية وبرامج التشغيل الإلكترونية.
ومن المتعارف عليه دوليا أن البنية الأساسية لأي بورصة للأوراق المالية تقاس بمدى التطور التشريعي والتنظيمي من ناحية، وبمدى التطور في آليات التشغيل المستخدمة في بورصة الأوراق المالية من ناحية أخرى، ومن هنا يصبح المستوى المعرفي التطبيقي لأي بورصة مؤشرا إلى مدى جاذبيتها الاستثمارية.
لماذا ننبذ المعرفة؟
لا شك أن من العوامل الرئيسية التي تعظم من دوافع نبذ المعرفة عند اتخاذ المواطن العربي قرار الاستثمار في البورصة، العديد من الرواسب والتراكمات التاريخية والثقافية والتعليمية السلبية عن المعرفة والتي يمكن تحديدها في الآتي:
- تقديم الكم قبل الكيف: إننا مجتمعات ما زالت تهدر الكيف من أجل الكم، وأصبحنا نهتم بتخريج أعداد كبيرة من المؤهلات غير القادرة على الإبداع والابتكار وتفعيل مفهوم المعرفة التطبيقية، ويعترف المجتمع ضمنيا بفشل نظام التعليم عندما يرفض صاحب العمل أن يعين من تخرج في التعليم العام، ويصر على أن يكون خريج التعليم الخاص -ذو المرجعية الأجنبية في لغة التدريس- له الأولوية ليعلن صراحة عن فشل نظامنا التعليمي.
- الثقة الضائعة: إننا ما زلنا لا نثق في أنفسنا؛ فداخلنا استعمار ثقافي مسيطر على أذهاننا وتحت مبررات كاذبة تقوم على "هل نعيد صناعة الدراجة؟" استسلمنا لأمرنا الواقع ودخلنا في دائرة مغلقة من استيراد المعرفة دون التجرؤ على محاولة المشاركة في هذا المجال، بل هناك من تملكت منه التبعية حتى أصبح يرفض كل من يخرج من أحضان المجتمع العربي وله قدرة على الإبداع إن لم يكن قد اغترب وتم تقديره من الغرب أولا، وهذا ليس لعجز فيه إنما لعجز من يقيمه؛ لأنه يؤكد أنه غير قادر على تقييم مستوى المعرفة القائم للمبدع.
ونتيجة لذلك انتهينا إلى أن أصبحنا أقل المجتمعات في العالم إنفاقا على البحوث والتطوير، فكيف لنا أن نتقدم؟!.
- التحصيل قبل التفكير: ففلسفة التعليم تقوم على التلقين والتخزين للمعلومات دون تنمية القدرة على التفكير والإبداع، ومع عوامل القهر وضعف الحريات وإهدار القيم الإنسانية للتقدم والتقييم والترقي الاجتماعي وذوبان الهوية ومحركات الارتباط الاجتماعي في ظل الاستسلام لعوامل الغزو الثقافي تحت تفسيرات غير سليمة للعولمة والانفتاح، يضيع الولاء والانتماء وتسيطر على الإنسان الذاتية "وليس الفردية بمعناها الرأسمالي"، هنا تقتل قدرات الإبداع والابتكار والقدرة على الاختراع؛ ومن ثم تضعف ملكات تفعيل العلم إلى معرفة تطبيقية لاستغلال الموارد. من هنا تتعمق التبعية المعرفية ومن ثم التبعية الاقتصادية، والأخيرة تنتهي إلى ضعف عسكري فتبعية سياسية كاملة.
من أين نبدأ؟
علينا أن نبدأ بترسيخ المعنى الذي تحمله بورصة الأوراق المالية داخلها لدى المواطن العربي كدافع أساسي لتحفيز رغبات التعلم والمعرفة؛ فانطلاقا من القاعدة الاجتماعية "إنك إن لم ترتبط بما ترغب فلن تسعى لإدراكه والتعرف عليه"، علينا أن نسعى بكافة وسائل المعرفة والتثقيف والإعلام أن نجعل الإنسان العربي يرتبط بالبورصة بالصورة والمعنى السليم، يعي ويفهم أن البورصة هي مرآة للمجتمع ينعكس من خلالها أسمى معاني الانتماء التي تتركز في نجاح المنظومة الاجتماعية الشاملة في تعظيم قيمة الوطن من خلال تعاظم الجهد والعطاء؛ وهو ما ينتج عنه أن تكون القيمة الاقتصادية لأصول المجتمع في أعلى وأسمى تقدير تحدده البورصة بآليات رائعة سهلة القياس.
ويمكن الجزم بأن البورصة بصفتها أداة مثالية تحقق التكامل الرائع بين الفرد والمجتمع في أن تنساب وتتخلل احتياجات الفرد متطلبات الرقي والتقدم للمجتمع، بل أحيانا ما ينتج عن هذا الانسجام الوطني الرائع استفزاز الأجنبي ذاته فيأتي باحثا عن الانتماء لك، لتتجسد أسمى معاني الهوية والانتماء، إنه ليس بكلام الشعراء، أو هيام في أودية الخيال، بل هو حقيقة سهلة الإدراك والتشخيص.
إننا لسنا في حاجة إلى تقارير السادة "الخواجات" ومؤسساتهم "المتفردة" أو حتى بتقليد نفس مناهج الإعداد حتى نتخذ قرار الاستثمار داخل وطننا، حتى وإن تعارض ما يعلنون عنه مع ما نقرره.
وهذه رسالة يجب أن يعلمها كثير ممن يتحدثون عن الاقتصاد العربي؛ فلسنا أقل من المواطن الياباني أو الألماني أو الأسباني() الذي يقرر الاستثمار في أصول بلده مهما تعارض ذلك مع أسس القرار الاستثماري السليم "كما يتفلسف أصحاب الياقات البيضاء"؛ لأن هناك معاني اقتصادية وطنية يصعب أن تقاس بمفاهيم القرار الاستثماري التقليدية، وتلك هي التي تصنع الأمم وتحقق لها القوة الاقتصادية، واحترام الأجنبي وانجذابه لها.. فهل ندرك معنى ذلك حقا؟.
علينا أن نرسخ لدى الإنسان العربي البسيط بكافة الوسائل أن البورصة هي معبر مهم نحو الازدهار الاجتماعي، إذا استطاعت أن تقوم بدورها في ضخ الاحتياجات اللازمة لتمويل المشروعات وبما ينعكس في زيادة النمو الاقتصادي ومن ثم تحسن الأوضاع الاجتماعية للمواطنين، فيكون من المنطقيات عندئذ تأجج روح الانتماء والارتباط بالوطن من خلال الارتباط بمشروع اقتصادي ناجح يسعى إلى النمو والبقاء وبما يعظم من قيمة المشروع في البورصة ويكون النواة نحو تعاظم الرغبة في المعرفة.
إن أجمل ما تحققه البورصة أن الارتباط بالوطن سيكون من خلال الاشتراك في امتلاك أحد أصوله؛ فهذا المواطن كله سعادة بأنه يمتلك سهما وهو أحد مؤسسي الشركة "س" التي تعتبر من كبرى الشركات في مجالها، وعكس ذلك يجعل هذا المواطن لا يتوانى عن محاسبة إدارة الشركة حول تقصيرها؛ فهو مالك ومساهم، وبما يصور صورة رائعة من مفاهيم الديمقراطية وقوة المواطن في إدارة أصول بلده ووطنه، وهذا هو الانسجام والتكامل بين صالح الفرد والمجتمع وحصاد المعرفة.